تجربة الامارات في تخطيط وتطوير مدنها

لقد ارتبط التخطيط الحضري بنشأة المدن منذ القدم ، وتميزت كل حضارة بنظام تخطيط يلبي حاجات الأفراد والمجتمعات، ويضمن راحة السكان وتوفر الخدمات ومواءمة أماكن السكن لمتطلبات المجتمع، وأصبح مفهوم التخطيط الحضري الدعامة الرئيسة التي تعتمدها الدول في التخطيط لمستقبل التجمعات البشرية في القرن العشرين، حيث تحول التخطيط الحضري إلى علم له مدارسه ونظرياته، وبات محركاً فعلياً لبناء وتوسيع العمران البشري واستدامته لكي يتمكن من تلبية حاجات الأفراد والمجتمعات لسنواتٍ طويلة .

وعلى المستوى المحلي فقد شهدت الإمارات خلال العقود الماضية قفزات واسعة في البناء والتحديث، وتوسع المدن وامتد العمران على مساحات شاسعة، بحيث أصبحت المدن الإماراتية تمثل نماذج جديدة للمدن الناشئة في المنطقة، وكان للتخطيط دورٌ مهم في هذه النهضة العمرانية التي شهدتها الدولة خلال السنوات الماضية، وزاد الاهتمام الرسمي بمفهوم التخطيط الحضري، بحيث أصبح هنالك العديد من الجهات التي تختص بالقيام بعملية التخطيط الحضري، وتشهد الدولة كل عام الكثير من النشاطات والمؤتمرات المختصة بتطوير أفضل الممارسات المتعلقة بالتطوير الحضري وتنمية المدن.

ولعل المستعرض للجهود الإماراتية الحالية في مجال التخطيط الحضري يلحظ أن هنالك اهتماماً كبيراً بمفاهيم التخطيط الحضري الحديثة التي تركز على بناء مدن خضراء وصديقة للبيئة، وتتمكن من استيعاب النمو السكاني الكبير الذي تشهده الدولة ويلبي متطلبات التوسع في القطاعات الاقتصادية المختلفة، ويتجلى الأمر في الحرص الإماراتي على جلب أفضل الخبرات العالمية المختصة في هذا المجال وتوظيفها لخدمة عملية التوسع في البناء الحضري وإنشاء مجتمعات عمرانية تلبي حاجات السكان لأطول مدى وفق افضل المعايير التخطيطية السليمة.

 لعل التوجه السريع في حركة التطور العمراني أدى إلى تداخل المدن والتحول نحو المدينة، والآن نلاحظ التداخل العمراني ووجود كتلة عمرانية من أبوظبي إلى رأس الخيمة، كما نلاحظ أيضاً مشكلات تتعلق بالإسكان، لكن في كل الأحوال لا يمكن تجاهل أننا أصبحنا مركزاً إقليمياً مهماً، بفضل ما نتمتع به من إمكانيات وثروات نفطية، إضافة إلى سياسة القيادة والجهد المتواصل من قبل حكام الإمارات، كل ذلك أدى إلى نمو وتطور الحركة العمرانية في البلاد، ولدينا نماذج في الاستدامة والتميز العمراني والثقافي .

يتم التعامل في التنمية والتخطيط بالإمارات باعتبارها كتلة واحدة،   وبالتالي يجري التنسيق مع كافة الجهات لتفادي العشوائية في التخطيط الحضري، طبعاً دون إغفال تنسيقنا مع باقي الوزارات .

ترتكز الإمارات على مقومات تاريخية واقتصادية واجتماعية، مكنتها حقيقةً للوصول إلى ما وصلت إليه اليوم،  والسعي وراء ايجاد مدينة فضلى ومعتمدة على الجانب الحضري الحديث، وأعتقد أن الدكتور عبدالرحمن مخلوف، أسس مدينة أبوظبي على الشكل الشبكي، حيث عمل تخطيطاً جميلاً للمدينة ربما هي قائمة فيه إلى الآن .

ان التخطيط الناجح والنظرات المستقبلة الهادفة كانت متثلة منذ القدم  فالشيخ راشد والحكومة في ذلك الوقت، كان في تصورها إنشاء مدينة جبل علي وميناء مهم وضخم،في وقت لم تكن هناك أي حاجة لانشائة حيث كان ميناء دبي يفي الحاجة في ذلك الوقت لكنها النظرة التخطيطية بعيدة المدى والصائبة وهذا ما يحصل الآن حقيقةً، وبالتالي يمكن القول إن لدى حكامنا بعد نظر في التخطيط الحضري، والدولة منذ بداياتها اهتمت بالتخطيط الحضري وطرح مبادرات حول هذا الموضوع .

أن عائدات النفط استخدمت في التطور الحضري والعمراني، وتحدث أيضاً عن عامل الهجرة الداخلية، بمعنى انتقال المواطنين للعيش من الريف إلى المدن، إضافة إلى الهجرة الخارجية المتعلقة بمجيء الوافدين والمتخصصين والمهرة الذين عاشوا في الإمارات، ومن متطلبات التخطيط الحضري توفير مناطق سكنية مناسبة، وبالتالي هذه الشروط والعوامل ساهمت في بناء تخطيط حضري ملائم .

بالرغم من أن كل إمارة لها خصوصيتها وطبيعتها الجغرافية، فعلى سبيل المثال إمارة الفجيرة حوالي 75% منها جبال، وبالتالي لا توجد أراضٍ سكنية، ومع ذلك فإن توجهات الدولة والإمارة تقتضي توفير المساكن والخدمات للناس، إنما الحقيقة هناك خدمات تتطلب مصاريف كبيرة نظراً للطبيعة الجغرافية للإمارة، ولذلك فإن وصول الخدمات من غاز وكهرباء ومياه يتطلب إنفاقاً أكبر لتوصيل تلك الخدمات، خصوصاً لمن يقطنون في المناطق الجبلية، ويقمون الان بصدد دراسة الخطة الشمولية التي بلغوا فيها المرحلة الرابعة لإمارة الفجيرة لعام ،2040 ودراسة توفير الخدمات والمساكن للناس، والتنسيق مع مختلف الوزارات لضمان تحقيق الاشتراطات .

الحقيقة أن الإمارات تطورت بشكل سريع خلال الأربعين عاماً الماضية، ولدينا الآن تحضر سريع له إيجابيات وسلبيات على الدولة بشكل عام، لكن عن طريق هذه الطفرة السريعة والتحضر السريع الذي حصل في مدن الدولة، نلاحظ أن هناك فرقاً بين إمارة وأخرى من ناحية التخطيط الحضري والانعكاسات التي أتت على هذا التحضر، سواء على مستوى البيئة أو الاقتصاد بشكل عام والتخطيط الحضري بشكل خاص . المحاسن واضحة ومعروفة للكل، لكن أيضاً هناك سلبيات تتصل بافتقاد الهوية لكل مدينة، خصوصاً بعد ظهور التجمعات السكانية والمدن الحضرية، ومن وجهة نظري فإن افتقاد الهوية حصل بسبب التخطيط السريع والطفرة السريعة، وبسبب الازدحام السكاني والهجرة التي أتت على الدولة، والنمو الاقتصادي لم يكن على وتيرة طبيعية، وإنما تعداها بشكل كبير، ثم إن اختلاف التخطيط الحضري من مدينة لأخرى، نتيجةً لاختلاف الأسلوب في التخطيط، وبعض الإمارات اتبعت أسلوباً صحيحاً، حيث قامت بعمل التخطيط الهيكلي ثم اتجهت إلى التخطيط التفصيلي، بينما إمارات أخرى للأسف قفزت قفزة كبيرة، واتجهت إلى التخطيط التفصيلي بدون أن يكون لديها خطة مركزية وقاعدة تأخذ منها الخطوط العريضة في عملية التخطيط.

بالنسبة لإمارة رأس الخيمة، فهي تمثل نموذجاً للتخطيط الحضري الذي حصل  في الإمارات الشمالية، وهو يختلف عن إمارتي أبوظبي ودبي، حيث في رأس الخيمة بدأ التخطيط على النموذج التفصيلي، إنما في العام ،2006 كلف حاكم رأس الخيمه الشيخ سعود بن صقر إحدى الشركات الاستشارية بإقامة خطة للتخطيط الحضري في الإمارة، ولاحظ سموه حالة التخطيط العشوائي التي حصلت للإمارة في السابق، وقد تم وضع الخطة التي أمر بها ، وفعلاً بدأت الإمارة بتطبيق هذه الخطة التي تمتلك الكثير من الإيجابيات، وفي كل الأحوال تظل هناك سلبيات وهي موجودة في معظم الإمارات الأخرى، مثل عدم إشراك الناس في الخطة، بينما نجد الدول الغربية تأخذ بعين الاعتبار ملاحظات الجمهور وإشراكه حينما تقوم بإعداد خططها المتعلقة بالتخطيط الحضري.

تشكل الإمارات نموذجاً للكثير من الدول، فهي تعتبر من المدن الحديثة التي حدث فيها التطور في فترة قصيرة، وهذا حصل خلال أربعين عاماً تقريباً، ودبي تمتلك منذ أيام الشيخ راشد ، مخططاً للتطور العمراني، وبفضل وجود رؤيا واضحة من جانب القيادة الرشيدة، ورسالة واضحة إضافة إلى أهداف واضحة، فإن كل ذلك يسهل عمل أي إدارة للتخطيط في بناء مستقبل المدينة، ولذلك كل هذه الرؤيا حقيقةً سهلت عملية النمو والتطور، ودبي دخلت في 3 مخططات حضرية، ففي العام 1980 كان هناك مخطط سمي “مخطط تنمية شامل” وحدد اتجاهات النمو في دبي، ووضعنا مخططاً هيكلياً من العام 1993 إلى العام ،2012 لكن في العام 2010 وقبل انتهاء المخطط الهيكلي الذي تحدثت عنه، بدأنا بوضع خطة حضرية لإمارة دبي، بحكم التوسع السريع الذي حصل، ومدننا حقيقةً بحاجة إلى مخطط هيكلي يحدد النمو، واليوم لدينا مخطط دبي ،2020 والمخطط الهيكلي جداً مرن لأي متغيرات قد تحصل، والمخطط الذي وضع لدبي في التسعينات من القرن الماضي كان مرناً جداً وواضحاً، واستوعب التوسعات والنمو السريع الذي حصل في دبي في فترة الطفرة، ومرت الأزمة العالمية ودبي تجاوزت هذه الأزمة وتأثيراتها .

بالنسبة لموضوع التخطيط، أعتقد أنه من الضروري وجود مخطط هيكلي لكل مدينة، لأنه يحدد المسار وخط التنمية، كما هو حال مخطط دبي ،2020  ،والذي اشتمل على الخدمات العامة وتحديد استعمالات الأراضي، وهذه جميعها موجودة في مخطط دبي ،2020 لكن بطبيعة الحال يمكن القول إن النمو السريع يشكل تحدياً لأي خطة يتم وضعها، ولذلك من المهم وضع خطط واضحة ومرنة، وما حصل لدبي من نمو سريع لم يتعد خط التنمية الذي كان موضوعاً في خطة 1993 إلى عام 2012 .

الإمارات تمتلك موقعاً استراتيجياً، وتاريخ التمدن الحضري في الدولة مهم ويجب ألا ننساه، إذ كانت ولا تزال تمتلك تنوعاً ديمغرافياً، وهذا التنوع هو جزء من التركيبة الاجتماعية للإمارات، وحينما نشاهد المدينة التاريخية للشارقة ودبي . . . إلخ، يمكننا برهنة أن تجمعاً حضرياً كان موجوداً هناك . وعند الحديث عن مسلسل التحديث الذي بدأته الإمارات وخصوصاً بعد إعلان الاتحاد، ظهرت مشكلات تتصل حقيقةً بغياب تخطيط حضري وعدم التفريق بين تخطيط النقل والتخطيط الحضري، لكن حينما بدأت التوعية وتوصلنا إلى مخطط الهيكلة، بدأ التركيز على تصنيف المناطق انسجاماً مع التوسع والنمو العمراني والديمغرافي . في مسألة التخطيط الحضري، لا يمكن أن يكون هناك تخطيط عمراني إلا إذا كان عندنا مصلحة عليا في المدينة، وأن هناك سلطة في مجال اقتناء أراض، مثلاً لتحديد طرقات استراتيجية وطرقات حيوية، ولذلك هناك مشكلة القطائع .

تشكل دبي نموذجاً للتطور العمراني، ومع ذلك هناك تحديات تتعلق بالسرعة في النمو، لأن ذلك أدى إلى حصول تضخم كبير في النمو، وبعض الإحصائيات بينت قبل الأزمة العالمية، أن واحداً من أصل 5 “كرينات” موجودة في دبي، أي حوالي 25% من “الكرينات” في العالم هي في دبي، وفي العام 2000 أو قبل هذا التاريخ، جرى تحول في الهيئات الحكومية إلى هيئات شبه حكومية أو الخاصة، 

تعتبر دبي اليوم قصة نجاح يتحدث عنها العالم بأجمعه، وهي قبلة للكثير من الناس الذين يودون زيارتها، وصحيح أن دبي واجهت تحديات، وهناك بعض الأمور السلبية التي طرأت وتمت معالجتها، والنمو المتسارع والتطور السريع حصل في دبي، لكن في النهاية تحقق الهدف بتحقيق التنمية والتطور، وأي مخطط هيكلي أو حضري لا يطبق مئة بالمئة وتلزمه مؤثرات سواء اجتماعية، اقتصادية . . . إلخ .